فقدان الغرب للمصداقية- حقوق الإنسان في امتحان غزة

المؤلف: د. محمود الحنفي10.22.2025
فقدان الغرب للمصداقية- حقوق الإنسان في امتحان غزة

تقوم وزارة الخارجية الأمريكية بإصدار تقرير سنوي شامل حول وضع حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم، وتستند في ذلك إلى المعلومات التي تجمعها بعثاتها الدبلوماسية المنتشرة في مختلف الدول، بالإضافة إلى مساهمات شركائها من الجمعيات والمؤسسات والبلديات والجامعات التي تتلقى دعمًا ماليًا من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. يحلل هذا التقرير السنوي بالتفصيل حالة حقوق الإنسان في كل دولة، ويقدم ملخصات وتوصيات محددة تدعو الحكومات إلى احترام حقوق الإنسان في جوانب معينة.

يقدم الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى بعض الدول الأوروبية الهامة مثل ألمانيا، دعمًا ماليًا كبيرًا لمنظمات المجتمع المدني، بما في ذلك منظمات حقوق الإنسان، وذلك من خلال برامج متنوعة تشمل التوعية والتدريب والرصد والتوثيق وتنظيم الحملات الحقوقية وغيرها من الأنشطة. وفي الواقع، تعتبر الجهات الغربية، سواء كانت دولًا أو منظمات، المصدر الرئيسي لتمويل منظمات حقوق الإنسان في العالم العربي.

يرى العديد من سكان المنطقة العربية، وكذلك منظمات حقوق الإنسان العاملة فيها، أن وضع حقوق الإنسان في الدول الغربية يمثل نموذجًا يحتذى به، وأن هذه الدول قد حققت تقدمًا كبيرًا ووصلت إلى مستوى حقوق الجيل الرابع من حقوق الإنسان، والتي تشمل (الهندسة الوراثية والاستفادة من التكنولوجيا لخدمة الإنسان). في المقابل، لا يزال العالم العربي يكافح من أجل تحقيق أبسط الحقوق الأساسية، وهي حقوق الجيل الأول، مثل (الحقوق المدنية والسياسية).

مع اندلاع حرب الإبادة المروعة ضد سكان غزة، تبدلت الأمور بشكل جذري على صعيدين: الأول يتعلق بالعلاقة مع منظمات حقوق الإنسان العربية الشريكة، والثاني بالعلاقة مع الدول الغربية نفسها. ونتيجة لذلك، فقدت الدول الغربية، التي كانت تعتبر راعية نشر ثقافة حقوق الإنسان والدفاع عنها، مصداقيتها بشكل كبير.. فكيف حدث ذلك؟

بالنسبة لمنظمات حقوق الإنسان العربية والعاملين فيها، فرضت الجهات الغربية الممولة شروطًا قاسية لاستمرار التمويل، بما في ذلك الالتزام بتوجهاتها السياسية، خاصة فيما يتعلق بالصراع العربي – الإسرائيلي. تدعو الجهات الغربية الداعمة هذه المنظمات إلى إدانة أعمال المقاومة الفلسطينية، وتجاهل جرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل، وذلك تحت التهديد بقطع التمويل. وتسعى هذه الجهات إلى فصل المنظمات عن واقعها، وإجبارها على العيش في حالة من الانفصام الشخصية والهوية، في ظل غضب عالمي متزايد إزاء جرائم الاحتلال.

أدت سياسة التمويل المشروطة هذه إلى وضع منظمات حقوق الإنسان العربية في مأزق حقيقي؛ فهي من ناحية تتعرض للشك والانتقاد باعتبارها "عميلة للغرب"، ومن ناحية أخرى، يُنظر إلى تنديدها بحرب الإبادة وعدم إدانتها لأعمال المقاومة على أنه نوع من التواطؤ مع المقاومة، وهو ما يتعارض بشكل كامل مع مواقف العديد من الدول الغربية التي تقدم دعمًا مطلقًا لإسرائيل.

كشفت الحرب على غزة عن حقائق مؤلمة بشأن العلاقة بين الجهات الغربية ومنظمات المجتمع المدني، حيث تسعى هذه الجهات إلى إبقاء المنظمات تابعة لها وغير مستقلة ومنفصلة عن واقعها وبيئتها وثقافتها. فكيف يمكن لهذه المنظمات أن تنجو من هذا الاختبار الصعب، في ظل هذه الحرب الشرسة على غزة؟

لقد فضحت الحرب على غزة الادعاءات الغربية بشأن حقوق الإنسان، وكشفت أنها مجرد شعارات فارغة لا تحمل أي مضمون حقيقي. كان الكثيرون يعتقدون أن الدعم الغربي لمنظمات حقوق الإنسان يهدف إلى تحسين وضع حقوق الإنسان في العالم، وتمكين الشعوب من تقرير مصيرها (بما في ذلك الحل المتواضع بإقامة الدولة الفلسطينية على جزء صغير من أرضها التاريخية)، وأن القانون الدولي، بفروعه المختلفة، بما في ذلك القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، هو منظومة متكاملة لا تقبل الاستثناءات.

أصبح الحديث عن حقوق الإنسان في عالمنا العربي، بسبب السياسات الغربية الداعمة لجرائم الإبادة في فلسطين، وفي الوقت نفسه الترويج لاحترام حقوق الإنسان، مادة للسخرية والاستهزاء، وأضعف دور هذه المنظمات في التأثير على المجتمع، وثنيه عن التفاعل الإيجابي لتحسين أوضاع حقوق الإنسان.

أما بالنسبة للدول الغربية نفسها، وخاصة الولايات المتحدة وألمانيا، فقد كشفت الحرب على غزة عن وجود فجوة واسعة بين القيم الحضارية التي كانت تنادي بها، وبين الواقع المرير الذي تعيشه.

الولايات المتحدة، التي تصدر تقارير سنوية مفصلة عن حقوق الإنسان في جميع دول العالم، يفترض أنها تعتبر حقوق الإنسان قيمة متأصلة في ثقافتها وسلوكها، وأنها، نظرًا لموقعها السياسي العالمي، قادرة على الدفاع عن هذه القيم. لكن حرب غزة كشفت أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق، خاصة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل.

لقد تجاوزت الولايات المتحدة جميع الخطوط الحمراء، وقدمت دعمًا غير مسبوق لجرائم الإبادة، وزودت إسرائيل بجميع أنواع الأسلحة الفتاكة، ووفرت لها الغطاء السياسي والدبلوماسي، واستخدمت حق النقض الفيتو في مجلس الأمن أربع مرات لإحباط أي مشروع يدعو إلى وقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات الإنسانية، والتنديد بجرائم الإبادة، وقامت بوقف دعم الأونروا في وقت يحتاج فيه الناس، ومعظمهم من اللاجئين، في غزة إلى هذا الدعم بشدة.

وعلى المستوى الداخلي، شنت السلطات الأمريكية حملة اعتقالات واسعة النطاق بحق طلاب الجامعات الذين عبروا عن غضبهم إزاء جرائم الإبادة. وشاهد العالم مظاهر القمع والترهيب. وأصبح أي تعبير عن دعم الإنسانية ورفض جرائم الإبادة الإسرائيلية يُعتبر معاداة للسامية، ويستوجب العقوبة. وكانت الولايات المتحدة دائمًا تبرر الجرائم المروعة التي ترتكب بحق السكان الآمنين، وتصف جيش الاحتلال بأنه جيش أخلاقي يلتزم بقواعد الحرب.

بهذا السلوك المتناقض والفاضح، فقدت الولايات المتحدة مصداقيتها تمامًا عندما يتعلق الأمر بالدعوة إلى احترام حقوق الإنسان. فالقضية الفلسطينية هي الاختبار الأخلاقي والحقوقي الحقيقي، وهي قضية عادلة بامتياز.

أما سياسة ألمانيا فيما يتعلق بغزة، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، فقد أثارت استغرابًا ودهشة وصدمة كبيرين. وتعتبر ألمانيا ثاني أكبر دولة تزود إسرائيل بالسلاح، على الرغم من علمها التام بأن هذا السلاح يستخدم لقتل المدنيين وتدمير الأعيان المدنية، مثل المستشفيات والمدارس والجامعات وغيرها. ومع ذلك، لم تتردد ألمانيا في الاستمرار في تقديم هذا الدعم، على الرغم من التنديد والاستياء، وعلى الرغم من أن الأمر قد أثير في محكمة العدل الدولية من قبل نيكاراغوا.

كانت ألمانيا واضحة وحاسمة جدًا في دعمها لجرائم الاحتلال. وأكدت أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، في حين أنها أنكرت على الفلسطينيين حقهم في مقاومة الاحتلال. وعلى المستوى الداخلي، ضيقت ألمانيا الخناق على حرية التعبير، ومارست نوعًا من الابتزاز على اللاجئين الذين وجدوا في ألمانيا ملاذًا آمنًا بعد أن أجبرتهم الظروف الداخلية في بلدانهم، من حروب ومجاعات وتحديات اقتصادية، على اللجوء إلى ألمانيا. ورفضت ألمانيا دخول العديد من الشخصيات العالمية إلى أراضيها في إطار التضامن مع غزة.

أي تنديد بجرائم الاحتلال، أو دعم لسكان غزة، يعتبر معاداة للسامية، وقد يعرض صاحبه للترحيل أو سحب الإقامة، بل إن مجرد وضع إشارة إعجاب (like) على منشور قد يعرض صاحبه للعقوبة. إنه أشد أنواع القمع لحرية التعبير. والأكثر من ذلك، فقد اشترطت ألمانيا الاعتراف بإسرائيل في قانون التجنيس الأخير.

أظهرت حرب غزة بشكل جلي أن الدعوات الغربية لاحترام حقوق الإنسان كانت مجرد أكاذيب، وأنها سقطت في العديد من الاختبارات. كما أن تمويلها لمنظمات المجتمع المدني، وخاصة الحقوقية منها، كان مشروطًا بما لا يتعارض مع سياستها العامة، فإذا ما تعارضت معها، يتم وقف هذا التمويل على الفور.

ومع كل ذلك، يجب علينا أن نتذكر دائمًا أن العمل على احترام حقوق الإنسان هو ضرورة مجتمعية وسياسية، ويجب أن نناضل جميعًا من أجل تحقيقها. كما أن عدالة القضية الفلسطينية تلزمنا باتخاذ مواقف أخلاقية ومبدئية ثابتة تجاهها. ويجب ألا يدفعنا فشل المصداقية الغربية في هذا الصدد إلى التخلي عن هذا المسار النبيل.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة